قد يبدو الشأن السياسي المحليّ، بما في ذلك وضع الحكومة والتعيينات، تفصيلاً صغيرًا ضمن مشهد إقليمي مضطرب. ففي لحظة سياسية مشحونة، تترنّح المنطقة تحت وطأة أحداث كبرى، لعلّ أبرزها المستجدات التي شهدتها سوريا هذا الأسبوع، التي كادت تشعل الإقليم برمّته، على وقع أحداث السويداء الدامية، ودخول إسرائيل المباشر على خطّها، الذي أكّد مرّة أخرى وجود مخطّط لبسط النفوذ على كامل الإقليم.

رغم كل ذلك، لا يمكن إغفال جلسة مساءلة الحكومة التي عقدها مجلس النواب هذا الأسبوع، والتي امتدّت على يومين، ليس لأنّ هذا النوع من الجلسات نادر، ويعكس في المبدأ ممارسة ديمقراطية محمودة، سرعان ما أفرغت من مضمونها، بعدما تحوّلت الجلسة إلى ساحة استعراض سياسي تكشف عن هشاشة البنية الداخلية وتزايد المزاج الشعبوي عشية ​الانتخابات النيابية​ المرتقبة في العام المقبل، والتي يبدو أنّها بدأت تشغل القوى السياسية باكرًا.

بيد أنّ أهمية هذه الجلسة تكمن في قراءة تموضع القوى السياسية، على اختلافها، حتى لو اتّخذت شكل منصّة للتصعيد والمزايدات، بعدما طغى على نقاشاتها ملف سلاح "​حزب الله​"، ومبدأ "حصر السلاح بيد الدولة" الذي رفعته الحكومة شعارًا لها منذ اليوم الأول، لتغيب في المقابل، أو بالحدّ الأدنى " تُهمَّش" الملفات الاقتصادية والحياتية التي تعني المواطنين بصورة مباشرة، سواء على مستوى ​إعادة الإعمار​، أو استرداد الودائع، أو النهوض بالاقتصاد.

أما ذروة الجلسة فجاءت في الشقّ الأخير منها، حين اختار رئيس "التيار الوطني الحر" ​جبران باسيل​ أن يطرح الثقة بالحكومة، بحجّة أنّه لم يقتنع بإجابات رئيسها ​نواف سلام​ على الأسئلة التي طرحها والنواب خلال المساءلة، إلا أنّ النتيجة جاءت تجديدًا للثقة بالحكومة، التي لم يحجبها سوى تسعة نواب، وهو عدد يقلّ بالمناسبة عن عدد أعضاء تكتل "لبنان القوي"، فكيف تُقرَأ الجلسة من الزاوية الأوسع، وهل أخطأ باسيل بطرح الثقة في هذا التوقيت؟!.

في المبدأ، كان واضحًا منذ اللحظات الأولى أن مساءلة الحكومة لن تكون محصورة بأدائها في الملفات الاقتصادية والاجتماعية والإصلاحية، بل ستتّخذ منحى سياسيًا، مع تصاعد الحملة ضد سلاح "حزب الله"، الذي وُضع مجددًا في قلب المشهد، بل إنّ ثمّة من رجّح قبل التئام الجلسة، أن يكون السلاح عنوانها، ربما لأنّه "الشغل الشاغل" للقوى السياسية هذه الأيام، وربما لأنّه ملفّ يستقطب الشعبوية، لما ينطوي عليه من إثارة للجدل على أكثر من مستوى.

وفي هذا السياق، لا بدّ من تسجيل مفارقة قد لا تكون غريبة وهي أنّ أبرز المنتقدين للحكومة، إضافة إلى "التيار الوطني الحر"، هي القوى الداعمة لها أو الممثّلة فيها، ربما لأنّها تضمّ التناقضات في صفوفها، فـ"القوات اللبنانية" مثلاً رفعت السقف ضدّ الحكومة لأنها تتأخر برأيها في اتخاذ القرار بسحب السلاح، و"حزب الله" في المقابل، اعترض على غياب إعادة الإعمار عن الأجندة الحكومية، مقابل طغيان ملف السلاح، حتى على حساب وقف الخروقات الإسرائيلية.

وإذا كان ذلك يكشف تناقضًا لافتًا داخل صفوف الحكومة نفسها، فإنّ نقطة التقاطع بين الخطابين، أنّهما "يتماهيان" مع الشارع الذي يمثّله كلّ طرف، فـ"القوات اللبنانية" تريد توظيف ملف السلاح لتسجيل النقاط على خصومها، خصوصًا أنّ الشارع المسيحي بصورة عامة مؤيد لنزع السلاح، وغير راضٍ عن المماطلة الحاصلة، وفي المقابل، فإنّ جمهور "الثنائي الشيعي" لا يخفي امتعاضه من هذا الخطاب "الفوقي"، إلى حدّ بعيد، وهو يريد من الحزب أن يحقّق من خلال الحكومة، سلسلة مكاسب خصوصًا على خط إعادة الإعمار.

هكذا، تحوّلت الجلسة إلى ما يشبه البازار السياسي المبكر، حيث تعدّدت المواقف والبيانات والبيانات المضادة، وتنوّعت السقوف من كتلة إلى أخرى، من دون أن يظهر أثر مباشر لأي منها على التوازنات داخل السلطة التنفيذية. وقد دلّ الإصرار على تمديد النقاشات ليوم إضافي على الطابع الاستعراضي الذي سجّله النواب، من مختلف الكتل، خصوصًا في ظلّ حضور إعلامي كثيف ومواكبة شعبية على وسائل التواصل.

لكنّ الاستحقاق الأساسي وسط حفلة "تضييع الوقت" هذه، إن صحّ التعبير، جاء في ختام الجلسة، مع طرح النائب جبران باسيل الثقة بالحكومة، وهي خطوة لم تكن متوقّعة، خصوصًا في توقيتها، ولأنّها لم تُسبَق بتنسيق سياسي أو تعبئة نيابية واضحة، حتى إنّ كتلة باسيل نفسها لم تكن مكتملة النصاب. ومع أنّها أوحت في لحظتها بتصعيد كبير قد ينسف المشهد الحكومي، فإنّها سرعان ما ارتدّت عكسيًا، إذ نالت الحكومة تجديدًا للثقة بأغلبية 69 نائبًا، في مقابل 9 فقط حجبوا الثقة.

وبحسب معارضي باسيل، فإنّ هذه النتيجة سلّطت الضوء على محدودية الكتلة النيابية التي لا تزال تقف خلف باسيل، وأظهرت تراجعًا في القدرة على التحشيد داخل صفوف "التيار"، رغم الخطاب العالي الذي اعتمده رئيسه. كما فتحت باب التساؤلات حول خلفيات الخطوة، إن كانت محاولة لتسجيل موقف رمزي أو لفتح الباب على تفاوض جديد في ملفات عالقة، أو أنّها ببساطة كانت ردة فعل على المسار الحكومي الذي يستبعد "التيار" سياسيًا ووزاريًا.

لكنّ مؤيدي "التيار" يعتبرون أن الخطوة كانت مدروسة، إذ إنّ باسيل أراد أن يُظهِر من خلالها أنّ منسوب الثقة بالحكومة يتراجع، كما أراد أن يحرج بعض القوى التي رفعت السقف ضدّ الحكومة، لكنّها صوّتت لصالحها، كما فعلت مثلاً "القوات اللبنانية"، ما يخفّض من حجم مكاسبها "الشعبوية" من خطاب السلاح، وكذلك "حزب الله" الذي صوّت في النتيجة لصالح حكومة، تقول صراحةً إنّها تريد سحب السلاح، تحت عنوان حصره بيد الدولة.

إلا أنّ النتيجة الثابتة، رغم كل التباينات، تبقى أنّ الحكومة خرجت أقوى، ولو معنويًا، من خلال هذا التصويت، الذي منح رئيسها نواف سلام هامشًا إضافيًا للمناورة في ملفات شائكة، من خطة إعادة الإعمار إلى ملف النازحين السوريين، وصولًا إلى النقاش المتجدد حول حصر السلاح بيد الدولة. وفي الوقت الذي راهن فيه البعض على انقسام داخل صفوف الداعمين للحكومة، جاء التصويت ليظهر التماسك النسبي، ولو المؤقت، ضمن تحالف الضرورة.

وبعيدًا عن الأرقام والنتائج، لم تغيّر الجلسة في موازين القوى داخل البرلمان أو الحكومة، لكنها منحت الجميع فرصة للظهور، في لحظة تشهد صمتًا سياسيًا ثقيلًا على المستوى الإقليمي والدولي. وإذا كان ثمّة من حاول أن يستثمر المنصة البرلمانية في تثبيت موقعه أو إعادة رسم دوره، فإنّ السؤال المطروح يبقى: هل ستكون الجلسة محطة عابرة في مسار تعبئة انتخابية مبكرة، أم ستكون مدخلًا لتحوّلات أعمق في خريطة التوازنات داخل الطبقة السياسية اللبنانية؟.